سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)}
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولاً وبالفعل ثانياً، أما الطريقة القولية فهي قوله: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب. فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله: {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] قال صاحب الكشاف: الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم.
أما قوله: {وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين} ففيه وجهان:
الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم.
والثاني: أنه عليه السلام عنى بقوله: {وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين} ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم، وأما الطريقة الفعلية فهي قوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله، وقرئ تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته.
المسألة الثانية: إن قيل لماذا قال: {لأَكِيدَنَّ أصنامكم} والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام. وجوابه: قال ذلك توسعاً لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها، وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم.
المسألة الثالثة: في كيفية أول القصة وجهان:
أحدهما: قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام: «لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال: {تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم} واحتج هذا القائل بقوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم}».
وثانيها: قال الكلبي: كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: أراني أشتكي غداً فذلك قوله؛
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم * فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89] وأصبح من الغد معصوباً رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال: أما والله لأكيدن أصنامكم، وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} واعلم أن كلا الوجهين ممكن. ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنماً مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير، ثم علق الفأس في عنقه.
أما قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن قيل لم قال: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} وهذا جمع لا يليق إلا بالناس، جوابه: من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب اليها، ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: جذاذاً قطعاً من الجذ وهو القطع، وقرئ بالكسر والفتح وقرئ جذاذاً جمع جذيذ وجذذاً جمع جذة.
المسألة الثالثة: إن قيل ما معنى: {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} قلنا: يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل في التعظيم ويحتمل في الأمرين.
وأما قوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} فيحتمل رجوعهم إلى إبراهيم عليه السلام، ويحتمل رجوعهم إلى الكبير.
أما الأول: فتقريره من وجهين:
الأول: أن المعنى أنهم لعلهم يرجعون إلى مقالة إبراهيم ويعدلون عن الباطل.
والثاني: أنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فبكتهم بما أجاب به من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ} [الأنبياء: 63] أما إذا قلنا: الضمير راجع إلى الكبير ففيه وجهان:
الأول: أن المعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك.
وهذا قول الكلبي، وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم.
والثاني: أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكلات.
المسألة الرابعة: إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء. فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال: القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب، وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه. وإن قلنا: إنهم ما كانوا عقلاء وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم.
الجواب: أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد، ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها ألبتة ضرر فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم من هذا الوجه.
أما قوله تعالى: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} أي أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام، وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها وتمادياً في الاستهانة بها.
أما قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الزجاج: ارتفع إبراهيم على وجهين:
أحدهما: على معنى يقال هو إبراهيم.
والثاني: على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم، قال صاحب الكشاف والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى.


{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}
اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام، وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم: {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} قال صاحب الكشاف: على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: ما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل أي يثبت إتيانه في الأعين ثبات الراكب على المركوب.
أما قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} ففيه وجهان:
أحدهما: أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل.
وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم.
وثانيهما: وهو قول محمد ابن إسحاق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله، وفيه قول ثالث: وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه.
أما قوله تعالى: {قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} فاعلم أن في الكلام حذفاً، وهو: فأتوا به وقالوا أأنت فعلت، طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه، فظهر منه ما انقلب الأمر عليهم حتى تمنوا الخلاص منه، فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقد علق الفأس على رقبته لكي يورد هذا القول فيظهر جهلهم في عبادة الأوثان، فإن قيل قوله: بل فعله كبيرهم كذب.
والجواب للناس فيه قولان:
أحدهما: وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب، وذكروا في الاعتذار عنه وجوهاً:
أحدها: أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، إنما قصد تقرير لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك، وقد كتبت كتاباً بخط رشيق، وأنت شهير بحسن الخط، أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر.
وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزبنة. وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه.
وثالثها: أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه. وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب الكشاف.
ورابعها: أنه كناية عن غير مذكور، أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدئ كبيرهم هذا.
وخامسها: أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدئ فيقول هذا فاسألوهم، والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم.
وسادسها: أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين.
وسابعها: قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم.
القول الثاني: وهو قول طائفة من أهل الحكايات، أن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى»، قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقوله لسارة هي أختي وفي خبر آخر: أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال: إني كذبت ثلاث كذبات ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا: الكذب ليس قبيحاً لذاته، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه.
أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه، فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
فأما قوله تعالى: {إِنّى سَقِيمٌ} فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} فقد ظهر الجواب عنه.
أما قوله لسارة: إنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق.
أما قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} ففيه وجوه:
الأول: أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك.
والثاني: قال مقاتل: فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.
وثالثها: المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب، والأقرب هو الأول.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} فقال صاحب الكشاف: نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في المعنى وجوه:
أحدها: أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة.
وثانيها: قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخذالاً مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة عليهم.
وثالثها: قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم. أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم، قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم.
المسألة الثانية: قرئ نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله، أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود.
أما قوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فالمعنى ظاهر.
قال صاحب الكشاف: أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله. ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا.
وهذا هو الأقرب لقوله: {أَفَتَعْبُدُونَ} ولقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.


{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم، وأنهم: {قَالُواْ حَرّقُوهُ وانصروا ءَالِهَتَكُمْ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح، وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس، وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال: إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هيرين، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
المسألة الثانية: أما كيفية القصة فقال مقاتل: لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة، وذلك قوله: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} [الصافات: 97] ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت: إن عافاني الله لأجعلن حطباً لإبراهيم، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوماً، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه، ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام: «لا حاجة بي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، أنت حسبنا ونعم الوكيل».
وقيل إنه حين ألقي في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك ربك العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: يا إبراهيم هل لك حاجة، قال: أما إليك فلا؟ قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي، علمه بحالي. فقال الله تعالى: {قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم} وقال السدي: إنما قال ذلك جبريل عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد: ولو لم يتبع برداً سلاماً لمات إبراهيم من بردها، قال: ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت، ثم قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس. ولم تحرق النار منه إلا وثاقه، وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال: ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها، وقال ابن إسحاق: بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة، ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج، فقام يمشي حتى خرج منها، فلما خرج قال له نمروذ: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال: ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها. فقال نمروذ: إني مقرب إلى ربك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك. فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم عليه السلام: «لا يقبل الله منك ما دمت على دينك، فقال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبحها له، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام»، ورويت هذه القصة على وجه آخر، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً، فقال لهم هاران أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته.
المسألة الثالثة: إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات، ولهذا قيل: {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصراً شديداً، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.
أما قوله تعالى: {قُلْنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً} المعنى أنه سبحانه جعل النار برداً وسلاماً، لا أن هناك كلاماً كقوله: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي يكونه، وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه، والأكثرون على أنه وجد ذلك القول. ثم هؤلاء لهم قولان:
أحدهما: وهو قول سدي: أن القائل هو جبريل عليه السلام.
والثاني: وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى، وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر، وقوله: النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة، قلنا: لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير.
وثانيها: أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه، كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار.
وثالثها: أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه، قال المحققون: والأول أولى لأن ظاهر قوله: {يانار كُونِي بَرْداً} أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها، لا أن النار بقيت كما كانت، فإن قيل: النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة، فإذا كانت الحرارة جزء من مسمى النار امتنع كون النار باردة، فإذاً وجب أن يقال: المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين؟ قلنا: المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك فكان مجازنا أولى.
أما قوله تعالى: {كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم} فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر بل لابد من الإعتدال ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر.
وثانيها: أن بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد.
وثالثها: أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد بل قد انتفع به والتذ ثم هاهنا سؤالات:
السؤال الأول: أو كل النار زالت وصارت برداً.
الجواب: أن النار هو اسم الماهية فلابد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية، وقيل: بل اختص بتلك النار لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها، والمراد خلاص إبراهيم عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق.
السؤال الثاني: هل يجوز ما روي عن الحسن من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم عليه السلام. الجواب الظاهر كما أنه جعل النار برداً جعلها سلاماً عليه حتى يخلص، فالذي قاله يبعد وفيه تشتيت الكلام المرتب.
السؤال الثالث: أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل وسلاماً لأتى البرد عليه.
والجواب: ذلك بعيد لأن برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد فلا يجوز أن يقال: كان البرد يعظم لولا قوله سلاماً.
السؤال الرابع: أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشاً منه في سائر أحواله.
والجواب: لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها، ويجوز أن يكون إنما صار أنعم عيشاً هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى.
أما قوله تعالى: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فجعلناهم الأخسرين} أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين، غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة، ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم، ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطاً معه وهو ابن أخيه وهو لوط بن هاران إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين. وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة، ثم قيل: إنها مكة وقيل أرض الشام لقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] والسبب في بركتها، أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها، وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش، وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9